بين باريس وسمرقند.. من يفوز بقيادة اليونسكو في ظل تحديات الانسحاب وأزمة التمويل؟
بين باريس وسمرقند.. من يفوز بقيادة اليونسكو في ظل تحديات الانسحاب وأزمة التمويل؟
تتجه أنظار العالم اليوم الاثنين إلى مقر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في باريس، حيث يصوّت المجلس التنفيذي للمنظمة لمرشح واحد من بين اثنين، سيُعرض اسمه لاحقًا على الجمعية العامة في نوفمبر بسمرقند لاعتماده مديرًا عامًا جديدًا، فالانتخابات التي يفترض أن تكون تقنية داخلية اكتسبت وزنًا سياسيًا هائلًا هذه الدورة، في ظل اتهامات متكررة لليونسكو بأنها منظمة "مسيّسة"، ووسط أزمتي نقص التمويل والانسحابات من المنظمة، وأحدثها إعلان الولايات المتحدة انسحابها مجددًا، ما يحرم المنظمة من أحد أبرز أعضائها وأكثرهم تمويلًا.
بعد انسحاب المرشحة المكسيكية غابرييلا راموس، اقتصرت المنافسة وفق وكالة "فرانس برس" على اسمين: المصري خالد العناني (54 عامًا)، وزير السياحة والآثار السابق وعالم المصريات الذي خدم لعقود في التعاون المباشر مع اليونسكو، والكونغولي فيرمين إدوار ماتوكو (69 عامًا) الذي أمضى 35 عامًا في المنظمة ويشغل حاليًا منصب نائب المدير العام للعلاقات الخارجية.
العناني يطرح نفسه بصفته القادم من خارج بيروقراطية المنظمة ليضخ "منظورًا جديدًا"، في حين يقدّم ماتوكو خبرته الداخلية الطويلة باعتبارها ضمانة لفهم آلية عمل اليونسكو في مرحلة حساسة، وبحسب التقاليد، فإن تصويت المجلس التنفيذي سيكون أشبه بانتخاب مبكر، إذ نادرًا ما خالفت الجمعية العامة توصيته.

انسحابات وتمويل متآكل
اليونسكو التي تأسست عام 1945 بصفتها منصة دولية لترسيخ "السلام في عقول البشر" عبر الثقافة والتعليم، باتت خلال السنوات الأخيرة مسرحًا لأزمات سياسية متكررة، حيث انسحبت إسرائيل عام 2017 احتجاجًا على قرارات تتعلق بالتراث الفلسطيني، تبعتها الولايات المتحدة أول مرة في العام ذاته متهمة المنظمة بالتحيز "ضد إسرائيل"، قبل أن تعود عام 2023 بجهود المديرة العامة الحالية أودري أزولاي، ثم تعلن إدارة واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب مجددًا انسحابها بحلول 2026، أما نيكاراغوا، فقد لحقت بالمنسحبين هذا العام احتجاجًا على منح جائزة لصحيفة معارضة.
هذه الانسحابات ليست رمزية فقط، إذ حرم خروج الولايات المتحدة منظمة اليونسكو من نحو 8 في المئة من موازنتها السنوية، في حين تراجع الدعم الأوروبي نتيجة تحويل الأولويات إلى الدفاع والأمن في ظل الحرب بأوكرانيا.
الخسائر المالية انعكست على برامج التعليم الطارئ، وتمويل مشروعات التراث الثقافي، ودعم الصحفيين والعلماء في مناطق النزاع، ومع تقلص الموارد، ارتفعت الأصوات داخل المنظمة مطالبة بالبحث عن بدائل تمويل، ومنها شراكات مع القطاع الخاص، وهو ما طرحه خالد العناني ضمن رؤيته بتوسيع قاعدة التمويل عبر إسهامات الشركات ونظام “مبادلة الديون”. في المقابل، يرى ماتوكو أن الحفاظ على الطابع "العالمي" للمنظمة يستدعي أولًا استعادة جميع أعضائها، ومنهم الولايات المتحدة.
السياسة والرسالة الإنسانية
الانتقادات الموجهة لليونسكو ترتبط باتهامها بالانحياز وتغليب البعد السياسي على رسالتها الثقافية والتعليمية. تقارير بحثية مستقلة، وكذلك تصريحات بعض الدول الأعضاء، أشارت إلى أن المنظمة "انخرطت في نزاعات جيوسياسية على حساب مهامها الجوهرية"، وهو ما أسهم في انسحاب بعض الأعضاء. المقررون الأمميون أنفسهم نبّهوا خلال السنوات الماضية إلى أن استمرار هذا المسار قد يفقد المنظمة صدقيتها.
منظمات حقوقية كـ"هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، وإن لم تكن معنية مباشرة بسباق اليونسكو، فإنها ركزت على خطورة تسييس المنظمات الأممية عامة، معتبرة أن فقدان الثقة يضعف شرعية الدور الأممي في الدفاع عن حقوق الإنسان والتعليم والحرية الثقافية، أما على صعيد القانون الدولي، فإن اتفاقية حماية التراث العالمي (1972) واتفاقيات اليونسكو الأخرى تبقى ملزمة للدول الأعضاء، لكن فعالية آلياتها مرتبطة بقوة القيادة الجديدة وقدرتها على استعادة الدعم المالي والسياسي.
السيناريوهات المستقبلية
أياً كان الفائز اليوم الاثنين، فإنه سيواجه تحديات غير مسبوقة منها إعادة ثقة المانحين، واستعادة عضوية الولايات المتحدة للمنظمة أو التكيف مع غيابها، وتوسيع قاعدة التمويل بعيدًا عن الاعتماد على قلة من الدول، وإقناع العالم بأن اليونسكو لا تزال قادرة على حماية التراث العالمي وتعزيز حرية الصحافة والتعليم رغم التحديات، ونجاح أو فشل القيادة المقبلة لن يحدد فقط مستقبل مؤسسة أممية، بل سيؤثر في حياة ملايين المستفيدين من برامجها حول العالم، من الأطفال في مدارس الطوارئ بسوريا واليمن، إلى المواقع الأثرية المهددة في إفريقيا وآسيا.
التصويت المرتقب في باريس ليس مجرد إجراء إداري، بل منعطف في مسار منظمة تعاني أزمة هوية وتمويل، وتواجه اليونسكو التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية لتبني السلام عبر الثقافة والتعليم، اليوم، امتحاناً عسيراً: هل تستطيع في ظل انسحابات وضغوط مالية أن تعيد تأكيد رسالتها العالمية؟ الإجابة ستتضح ليس فقط في نتائج التصويت، بل في قدرة المدير العام الجديد على الموازنة بين متطلبات السياسة وإرث المنظمة الإنساني والثقافي.